بترول

ليست ابتسامة… ولسنا كما نبدو

بقلم : عبد الفتاح موسي 

رئيس اللجنة النقابية بشركة بتروامير 

في يومٍ بعيد، كنت ما زلتُ غلامًا لا يعرف من الدنيا إلا سطحها، ولا يرى الناس إلا بما يراه أمام عينيه. كنت ألوم شخصًا ما على موقفٍ لم يعجبني، وأظن أنني أفهم كل شيء.

وكعادته، لم يتركني أبي عليه رحمة الله أغرق في ظنوني دون أن يمد يده لينتشلني من ضيق الفكرة إلى اتساع الحكمة.

 

كنّا في السيارة، والشمس تلامس زجاجها وفجأة، أشار أبي إلى العمارات العالية أمامنا، نوافذ لا تُعد ولا تُحصى، وقال بهدوءٍ يشبه حنان العمر كله:

 

“ترى تلك النوافذ؟ وراء كل نافذة حياة كاملة… أفراح لا تُرى، ودموع لا تُسمع. والكلٌ يظن أن وجعه هو الأثقل.”

 

وقتها صمتُّ.

وربما للمرة الأولى، شعرت أن العالم أوسع من غضبي، وأن حجم الإنسان لا يُقاس بما يراه هو فقط.

 

مرت السنين… وكبرتُ حتى صرت أكبر من ذلك المقعد الذي كنت أجلس عليه بجوار أبي.

وتحوّلت النوافذ التي كنت أعدّها في صغري، إلى قلوبٍ أراها اليوم ولا أستطيع قراءة ما بداخلها.

 

كل واحد منا يمشي في الدنيا وبداخله غرفة مظلمة لا يقترب منها أحد. سرّ يخفيه حتى عن أقرب الأقربين.

جرحٌ يبتسم فوقه حتى لا ينزف من جديد.

 

لا تخدعك الضحكات العالية، فقد تكون ستارًا لـقلبٍ لو تكلّم لانهار.

ولا تغترّ بهدوء الصامتين، ففي رؤوسهم ضجيجٌ يتصارع… أشد من ميدان رمسيس في قلب الزحمة.

ولا تظن الثقة التي يراها الناس دليلاً على قوة، فربما هي درعٌ يحمي هشاشة لا يعلمها إلا الله.

 

هذا الإنسان كتلة مشاعر تمشي على قدمين، يقف بثباتٍ ويهتز من الداخل، يبتسم وهو يختنق، ويواصل رغم التعب لأن التوقف أحيانًا أشد ألمًا من الرحلة نفسها.

 

نولد باكين، كأن الصرخة الأولى إعلان أن الدنيا ليست سهلة. وتتوالى الصرخات بعدها، بعضها يسمعه الناس، وأكثرها يخنقه الصدر في صمت.

 

فلا تُحاسب أحدًا على ما ترى، فربما في صدره حكاية لو حملتها دقائق، لانهارت ركبتاك.

ولا تُضيّق على قلبٍ أنت لا تعرف ما يحارب.

فربما في داخله معركة لا صوت لها… لكنها تقتله يوم بعد يوم 

 

وفي آخر الطريق يا صديقي، نحن لا نتباهى بالقوة…

نحن فقط نتعلم كيف نخفي انكسارنا بأناقة.

 

فلا تقسو عليّ يكفيني ما أقاتله في داخلي وما أدفنه في قلبي حتى لا أرهق العالم بكبريائي المصاب.

 

رفقًا بالناس…

فاللين لا ينقص من الرجال، بل يرفعهم.

والرحمة لا تقلل من الهيبة، بل تباركها.

 

كن ظلًا يستر… لا سيفًا يقطع.

فكلنا نحارب ما لا يُرى… ونبتسم لما لا يُحتمل.

 

احمل الناس برفق… فربما تصادف قلبًا ظلّ يقاتل طويلًا، ولم يعد يحتمل طلقة إضافية فلا تكون أنت تلك الطلقة التي تُنهي حكاية من الحكايات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!